الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب به، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه، كما إذا أحاط بنعيمه.ونهوا أولًا: عن القبيح الذي كانوا يتعاطونه وهو نقص المكيال والميزان، وفي التصريح بالنهي نعي على المنهى وتعيير له.وأمروا ثانيًا: بإيفائهما مصرحًا بلفظهما ترغيبًا في الإيفاء، وبعثا عليه.وجيء بالقسط ليكون الإيفاء على جهة العدل والتسوية وهو الواجب، لأنّ ما جاوز العدل فضل وأمر منذوب إليه.ونهوا ثالثًا: عن نقص الناس أشياءهم، وهو عام في الناس، وفيما بأيديهم من الأشياء كانت مما تكال وتوزن أو غير ذلك.ونهوا رابعًا: عن الفساد في الأرض وهو أعم من أن يكون نقصًا أو غيره، فبدأهم أولًا بالمعصية الشنيعة التي كانوا عليها بعد الأمر بعبادة الله، ثم ارتقى إلى عام، ثم إلى أعم منه وذلك مبالغة في النصح لهم ولطف في استدراجهم إلى طاعة الله.وتفسير معاني هذه الجمل سبق في الأعراف.بقية الله قال ابن عباس: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد الإيفاء خير من البخس، وعنه رزق الله.وقال مجاهد والزجاج: طاعة الله.وقال قتادة: حظكم من الله.وقال ابن زيد: رحمة الله.وقال قتادة: ذخيرة الله.وقال الربيع: وصية الله.وقال مقاتل: ثواب الله في الآخرة، وذكر الفراء: مراقبة الله.وقال الحسن: فرائض الله.وقيل: ما أبقاه الله حلالًا لكم ولم يحرمه عليكم.قال ابن عطية: وهذا كله لا يعطيه لفظ الآية، وإنما المعنى عندي إبقاء الله عليكم إن أطعتم.وقوله: إن كنتم مؤمنين، شرط في أن يكون البقية خيرًا لهم، وأما من الكفر فلا خير لهم في شيء من الأعمال.وجواب هذا الشرط متقدم.والحفيظ المراقب الذي يحفظ أحوال من يرقب، والمعنى: إنما أنا مبلغ، والحفيظ المحاسب هو الذي يجازيكم بالأعمال انتهى.وليس جواب الشرط متقدمًا كما ذكر، وإنما الجواب محذوف لدلالة ما تقدم عليه على مذهب جمهور البصريين.وقال الزمخشري: وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان، ويجوز أن يريد ما يبقى لهم عند الله من الطاعات كقوله: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابًا} وإضافة البقية إلى الله من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه، وأما الحرام فلا يجوز أن يضاف إلى الله، ولا يسمى رزقًا انتهى، على طريق المعتزلة في الرزق، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة: بقية بتخفيف الياء.قال ابن عطية: هي لغة انتهى.وذلك أن قياس فعل اللازم أن يكون على وزن فعل نحو: سجيت المرأة فهي سجية، فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة. وقرأ الحسن: تقية بالتاء، وهي تقواه ومراقبته الصارفة عن المعاصي. اهـ.
والعثى في الأرض السرقةُ وقطعُ الطريق والغارةُ، وفائدةُ الحال إخراجُ ما يُقصد به الإصلاحُ كما فعله الخضرُ عليه السلام من خرق السفينةِ وقتلِ الغلام، وقيل: معناه ولا تعثَوا في الأرض مفسدين أمْرَ آخرتِكم ومصالحَ دينكم.{بَقِيَّتُ الله} أي ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّةِ عن تعاطي المحرمات: {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالبخس والتطفيفِ فإن ذلك هباءٌ منثور بل شرٌّ محض وإن زعمتم أن فيه خيرًا كقوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات}، {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا فإن خيريّتَها باستتباع الثوابِ مع النجاة، وذلك مشروطٌ بالإيمان لا محالة أو إن كنتم مصدقين لي في مقالتي لكم، وقيل: الطاعاتُ كقوله عز وجل: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ} وقرئ تقيةُ الله بالفوقانية وهي تقواه عن المعاصي: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من القبائح أو أحفظ عليكم أعمالَكم فأجازيَكم وإنما أنا ناصحٌ مبلِّغٌ وقد أعذرتُ إذ أنذرتُ ولم آلُ في ذلك جهدًا أو ما أنا بحافظ ومستبْقٍ عليكم نِعمَ الله تعالى إن لم تتركوا ما أنتم عليه من سوء الصنيع. اهـ.
فإن وقوع العذاب في اليوم كوجود الأوصاف في القبة، وجعل اليوم محيطًا بالمعذب كضب القبة على الممدوح فكما أن هذا كناية عن ثبوت تلك الأوصاف له كذلك ذاك كناية عن ثبوت أنواع العذاب للمعذب، وأما وصف العذاب بالإحاطة ففيه استعارة إحاطته لاشتماله على المعذب فكما أن المحيط لا يفوته شيء من أجزاء المحاط لا يفوت العذاب شيء من أجزاء المعذب، وهذه الاستعارة تفيد أن العذاب لكل المعذب؛ وتلك الكناية تفيد أن كل العذاب له، ولا يخفى ما بينهما من التفاوت في الأبلغية، وجوز أن يكون: {مُحِيطٌ} نعتًا لعذاب وجر للجوار، وقيل: هو نعت ليوم جار على غير من هو له، والتقدير عذاب يوم محيط عذابه وليس بشيء كما لا يخفى، وأيًا مّا كان فالمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال في الدنيا.وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه فسر الخير برخص السعر.والعذاب بغلائه.{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي أتموهما، وفائدة التصريح بذلك مع أن الانتهاء المطلوب من النهي السابق لا يتحقق بدون الاتمام فيكون مطلوبًا تبعًا، وهذا مسلم على المذاهب جعل النهي عن الشيء عين الأمر بالضد أو مستلزمًا له تضمنًا أو التزامًا لأن الخلاف في مقتضى اللفظ لا أن التحريم أو الوجوب ينفك عن مقابلة الضد غير واحدة النعي بما كانوا عليه من القبيح وهو النقص مبالغة في الكف، ثم الأمر بالصد مبالغة في الترغيب وإشعارًا بأنه مطلوب أصالة وتبعًا مع الأشعار بتبعية الكف عكسا، وتقييده بقوله سبحانه: {بالقسط} أي بالعدل من غير زيادة ولا نقصان، ثم إدماج أن المطلوب من الاتمام العدل، ولهذا قد يكون الفضل محرمًا كما في الربويات، وإلى هذا يشير كلام الزمخشري، وظاهره حمل المكيال والميزان على ما يكال ويوزن، وحملهما بعضهم في الموضعين على الآلتين المعروفتين، وفسر القسط بما ذكرنا ثم قال: إن الزيادة في الكيل والوزن وإن كانت تفضلًا مندوبًا إليه لكنها في الآلة محظورة كالنفص.فلعل الزائد للاستعمال عن الاكتيال والناقص للاستعمال عند الكيل.وفائدة الأمر بتسوية الآلتين وتعديلهما بعد النهي عن نقصهما المبالغة في الحمل على الإيفاء والمنع والبخس، والتنبيه على أنه لا يكفيهم مجرد الكف عن النقص والبخس بل يجب عليهم إصلاح ما أفسدوه وجعلوه معيارًا لظلمهم وقانونًا لعدوانهم، وفيه حمل اللفظ على المتبادر منه، فإن الحمل على المعنى الآخر مجاز كما أشرنا إليه، وادعى الفاضل الجلبي أن هذا الأمر بعد النهي السابق ليس من باب التكرار في شيء، فقال: إن النهي قد كان عن نقص حجم المكيال وصنجات الميزان، والأمر بإيفاء المكيال والميزان حقهما بأن لا ينقص في الكيل والوزن، وهذا الأمر بعد مساواة المكيال والميزات للمعهود فلا تكرار كيف ولو كان تكريرًا للتأكيد والمبالغة لم يكن موضع الواو لكمال الاتصال بين الجملتين انتهى.وتعقب بأن حمل هذين اللفظين وقد تكررا في أحد الموضعين على أحد معنيين متغايرين خلاف الظاهر، وأن في التكرار من الفوائد ما جعله أقوى من التأسيس فلا ينبغي الهرب منه، وأما العطف فلأن اختلاف المقاصد في ذينك المتعاطفين جعلهما كالمتغايرين فحسن لذلك، وقد صرح به أهل المعاني في قوله سبحانه: {يَسُومُونَكُمْ سُوء العذاب وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ} [إبراهيم: 6] انتهى.وفي ورود ما تعقب به أولًا تأمل فتأمل، وقوله تعالى: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} يحتمل أن يكون تعميمًا بعد تخصيص فإنه يشمل الجودة والرداءة وغير المكيل والموزون أيضًا فهو تذييل وتتميم لما تقدم، وكذا قوله سبحانه: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} فإن العثى يعم تنقيص الحقوق وغيره لأنه عبارة عن مطلق الفساد، وفعله من باب رمي وسعي ورضى، وجاء واويًا ويائيًا، ويحتمل أن يكون نهيًا عن بخس المكيل والموزون بعد النهي عن نقص المعيار والأمر بإيفائه أي لا تنقصوا الناس بسبب نقص المكيال والميزان وعدم اعتدالهما أشياءهم التي يشترونها بهما، والتصريح بهذا انلهي بعد ما علم في ضمن النهي، والأمرين السابقين للاهتمام بشأنه والترغيب في إيفاء الحقوق بعد الترهيب والزجر عن نقصها، وإلى كل من الاحتمالين ذهب بعض، وهو مبني على ما علمت من الاختلاف السابق في تفسير ما سبق، وقيل: المراد بالبخس المكس كأخذ العشور على نحو ما يفعل اليوم، والعثى السرقة وقطع الطريق والغارة، و: {مُفْسِدِينَ} حال من ضمير: {تَعْثَوْاْ}، وفائدة ذلك إخراج ما يقصد به الإصلاح كما فعل الخضر عليه السلام من قتل الغلام.وخرق السفينة فهو حال مؤسسة، وقيل: ليس الفائدة الاخراج المذكور فإن المعنى لا تعثوا في الأرض بتنقيص الحقوق مثلًا مفسدين مصالح دينكم وأمر آخرتكم ومآل ذلك على ما قيل: إلى تعليل النهي كأنه قيل: لا تفسدوا في الأرض فإنه مفسد لدينكم وآخرتكم.{بَقِيَّتُ الله} قال ابن عباس: أي ما أبقاه سبحانه من الحلال بعد الإيفاء: {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالبخس.فإن ذلك هباء منثور بل هو شر محض وإن زعمتم أنه خير: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي بشرط أن تؤمنوا إذ مع الكفر لا خير في شيء أصلًا، أو إن كنتم مصدقين بي في مقالتي لكم، وفي رواية أخرى عن الحبر أنه فسر البقية بالرزق.وقال الربيع هي وصيته تعالى، وقال مقاتل: ثوابه في الآخرة، وقال الفراء: مراقبته عز وجل، وقال قتادة: ذخيرته، وقال الحسن: فرائضه سبحانه.وزعم ابن عطية أن كل هذا لا يعطيه لفظ الآية وإنما معناه الإبقاء وهو مأخوذ مما روي عن ابن جريج أنه قال: المعنى إبقاء الله تعالى النعيم عليكم خير لكم مما يحصل من النقص بالتطفيف، وأيًا مّا كان فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله على ما ذهب إليه جمهور البصريين وهو الصحيح، وقرأ إسماعيل بن جعفر عن أهل المدينة: {بَقِيَّتُ} بتخفيف الياء قال ابن عطية: وهي لغة، قال أبو حيان: إن حق وصف فعل اللازم أن يكون على وزن فاعل نحو شجيت المرأة فهي شجية فإذا شددت الياء كان على وزن فعيل للمبالغة، وقرأ الحسن تقية الله بالتاء والمراد تقواه سبحانه ومراقبته الصارفة عن المعاصي: {وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم من القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم بها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت إذ أنذرت ولم آل جهدًا.وأو ما أنا بحافظ عليكم نعم الله تعالى لو لم تتركوا سوء صنيعكم. اهـ.
|